مجلـــــــــــــة الإحياء الإسلامي ::: العدد الأول ::

تحميل المجلة بصيغة word

تحميل المجلة بصيغة pdf

تصفح المجلة

معاينة غلاف المجلة

الخميس، 15 مارس 2012

قضايا دعوية وتربوية 1- ::: الدعاة والثوابت ح1 ::: بقلم الأستاذ/محمد العبادي

مشاركة


1- ::: الدعاة والثوابت ح1 :::
بقلم الأستاذ/محمد العبادي

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.
خلق الله تعالى الإنسان، وكرمه، واصطفاه على غيره من المخلوقات؛ ليهيئه لحمل هذه الرسالة الخالدة العظيمة، التي خُلق لها ابتداء، كما قال تعالى: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ"(1)ومن ثم كانت مهمة الرسل الأولى هي إرجاع الناس إلى هذه الغاية العظمى التي أُوجدوا من أجلها، كما قال تعالى: " وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ"(2) وقال عز ذكره: " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ"(3).
ولذلك كان على الداعية الذي يريد أن يسير على منهاج النبوة أن يولي وجهه شطر هذه الغاية المباركة، وأن تكون عنايته بهذا الأمر أشد من غيره، وأن يحرص على غرس الثوابت الإسلامية في قلوب المسلمين.
لقد عشنا زمانًا طويلًا من العلمانية الطاغية التي فرضت نفسها على الناس بيد البطش والوحشية، وكان من البدهي أن تكون نتيجة هذا كله نكسة كبيرة في الشخصية المسلمة، فقد غابت عنها أبجديات ما كنا نتخيل أن تغيب، وإن كنتُ أُلقي باللائمة على أعداء الإسلام في هذا الأمر، فإن ثمة لائمة ألقيها على إخواننا الدعاة والمشايخ الذين أخذ الله تعالى عليهم الميثاق بأن يبينوا العلم و لا يكتموا منه شيئًا.
ولذلك رأيت – مستعينًا بالله – أن أسجل بعض الملاحظات التي أرى أنها كانت سببًا في تأخر مسيرة وصول هذه الثوابت الإسلامية إلى الجماهير، ولنبدأ في هذه الحلقة بالنقطة الأخطر من وجهة نظري.
1 – التفريط في الثوابت من قِبل بعض الدعاة:
قال تعالى: " أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ"(4)
وقال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله.......عار عليك إذا فعلت عظيم
وقديمًا قالوا : " فاقد الشيء لا يُعطيه"!
فإن كان فريق من العاملين في الحقل الإسلامي قد فرطوا في الثوابت الإسلامية، فكيف يُرجى منهم أن يغرسوها في قلوب الناس؟
ظن بعضٌ من إخواننا أن السياسة قد تستلزم في بعض الأحيان التحريف في الخطاب الإعلامي؛  حتى لا يجلب علينا أعداء المشروع الإسلامي بخيلهم ورَجِلهم، وأن الأمر لا يعدو أن يكون خُطة مرحلية، ينطبق عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم : " الحَرْبُ خُدْعة"(5)
وقد ظهر تطبيق ذلك منه صلى الله عليه وسلم، كما قال كعب بن مالك: " وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ غَزْوَةً  إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا"(6)
فما الإشكال إذن؟!
الإشكال هنا يكمن في الاستدلال الخطأ بدليل صحيح، وهو مهوى تزل فيه أقدام كثير من الناس.
الحرب خدعة في الإعداد لها، وفي ترتيباتها الميكانيكية التي لا تتعلق أبدًا بقضية العقيدة والمنهج، وإلا ففي أوج المعارك كانت قضية العقيدة ظاهرة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم دائمًا ما يوصي أمراءه على السرايا قائلًا : " ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ"(7)
فيا تُرى أكان أمراؤه صلى الله عليه وسلم يسعهم التحريف في هذا الإسلام المدعوّ إليه؟!
وربما رُد علينا بأن هذا السياق سياق قوة وعزة، فكيف تقيس زمان الضعف والهوان على زمان العزة والتمكين؟!
والجواب أنه إن سلمنا بأننا في كل البقاع الإسلامية نعيش زمن الضعف لا التضعف! فهيا بنا لنعود إلى زمان الضعف الأول، حيث المسلمون قابعون في أحلك الظلمات، حيث العذاب محيط بالمؤمنين إحاطة السوار بالمعصم، وهيا بنا نرى كيف كانوا حينئذ؟!
قال تعالى في سورة الحجر – وهي مكية -: " فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99)"
ففي ظل هذا التعذيب يأتي الأمر بالصدع، وتأمل ما في الفعل من دلالة على الجهر والقوة، ثم تأمل دلالة الاسم الموصول " ما" فكما هو مقرر أنه يفيد العموم، فكأن الله تعالى يأمره أن يجهر بدعوته كلها، وألا يخفي منها شيئًا.
لكن الصدع بالحق سيؤدي إلى تجرؤ السفهاء علينا، لذلك تأتي الآيات لتربط على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتطمئنه بأن الله تعالى كافيه ومؤيده، وما عليه إلا أن يُعرض عن هؤلاء، ويستعين بربه سبحانه وتعالى حتى يلقاه وهو على هذه الحال دونما تبديل أو تحريف.
ويحسن بنا في هذا السياق أن ننقل ما قاله شهيد الإسلام – كما نحسبه ولا نزكيه على الله – سيد قطب رحمه الله تعالى في ظلاله حول هذه الآيات المباركات، يقول رحمه الله:
" إن الصدع بحقيقة هذه العقيدة والجهر بكل مقوّماتها وكل مقتضياتها. ضرورة في الحركة بهذه الدعوة فالصدع القوي النافذ هو الذي يهز الفطرة الغافية ويوقظ المشاعر المتبلدة ويقيم الحجة على الناس «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» أما التدسس الناعم بهذه العقيدة وجعلها عضين يعرض الداعية منها جانبا ويكتم جانبا، لأن هذا الجانب يثير الطواغيت أو يصد الجماهير! فهذا ليس من طبيعة الحركة الصحيحة بهذه العقيدة القوية.
والصدع بحقيقة هذه الحقيقة لا يعني الغلظة المنفرة، والخشونة وقلة الذوق والجلافة! كما أن الدعوة بالحسنى لا تعني التدسس الناعم، وكتمان جانب من حقائق هذه العقيدة وإبداء جانب، وجعل القرآن عضين.. لا هذه ولا تلك.. إنما هو البيان الكامل لكل حقائق هذه العقيدة في وضوح جلي، وفي حكمة كذلك في الخطاب ولطف ومودة ولين وتيسير.
وليست وظيفة الإسلام أن يصطلح مع التصورات الجاهلية السائدة في الأرض، ولا الأوضاع الجاهلية القائمة في كل مكان.. لم تكن هذه وظيفته يوم جاء ولن تكون هذه وظيفته اليوم ولا في المستقبل.. فالجاهلية هي الجاهلية، والإسلام هو الإسلام.. الجاهلية هي الانحراف عن العبودية لله وحده، وعن المنهج الإلهي في الحياة، واستنباط النظم والشرائع والقوانين، والعادات والتقاليد والقيم والموازين، من مصدر آخر غير المصدر الإلهي.. والإسلام هو الإسلام، ووظيفته هي نقل الناس من الجاهلية إلى الإسلام.
 وهذه الحقيقة الأساسية الكبيرة هي التي يجب أن يصدع بها أصحاب الدعوة الإسلامية، ولا يخفوا منها شيئا وأن يصروا عليها مهما لاقوا من بطش الطواغيت وتململ الجماهير".
ومن اللافت للنظر أن بعض الدعاة يخلطون بين شيئين متباينين غاية التباين، يخلطون بين السكوت عن قول الحق في وقت ما، وبين قول الباطل، أو تحريف الحق ولَيّه، وكم بينهما من بون شاسع!
قد يُضطر أصحاب الحق في وقت ما أن لا يبينوا الحق – وإن كان الأصل العام هو التبيين -، لكنهم لا يسعهم أبدًا قول الباطل إلا في حالات الإكراه الشرعي التي تُبيح للإنسان النطق بكلمة الكفر!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله  تعالى(8)
"ففرق بين ترك العالم أو الأمير لنهي بعض الناس عن الشيء إذا كان في النهي مفسدة راجحة وبين إذنه في فعله"..
ونود أن ننبه إخواننا الذين وقعوا في مثل هذا التفريط إلى شيء في غاية الخطورة، فهب أنكم اتبعتم أسلوب التفريط حتى مُكنتم وفتحت لكم الدنيا فتحًا مبينًا، فهل سنفاجئ الناس قائلين لهم إننا خدعناكم سنين عددًا والآن سنصارحكم بحقيقة دينكم؟!
أو سنضطر إلى إكمال مسلسل التفريط حتى لا نُتهم في نياتنا، ونوصف بأننا انتهازيون لا مبادىء لنا؟!
أضف إلى ذلك شيئًا قد يكون أخطر، إن القادة الذين اتبعوا أسلوب التفريط قد تربوا بالفعل على هذه الثوابت، ولذلك فإنه حين يبدأ في هذه المجاملات غير الشرعية، فإنه يتبع حالة من المناورة السياسية لا أكثر و لا أقل، ولكن هل سيكون كذلك حال الجيل الشاب الجديد الذي تربى في هذه البيئة الناعمة، ولم ترتو قلوبهم من نبع العقيدة الصافي؟
أو أننا سنُصدم في بني جلدتنا حين نجد أن الجيل القادم لن يكون إلا صورة باهتة لا تمثل الإشراق اللازم لمن أراد قيادة الأمة، وحينئذ إن كان لا بد من لوم، فإنه لن يكون إلا لمن كان سببًا في هذه التنشئة الهزيلة.
ومن هنا أدعو كل العاملين لدين الله – وهم جميعًا أحباء إلى قلبي – أن تكون قضية الثوابت قضية لا تحتمل لونًا رماديًا، قضية لا تعرف المفاوضات و لا المناورات، وإنما الصدق شعارها، والوضوح دثارها، "لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ"(9).

1- الذاريات 56
2- النحل 36
3-الأنبياء 25
4-البقرة 44
5-رواه البخاري في صحيحه (3030) ومسلم في صحيحه (1739) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
6-صحيح البخاري (2947)
7-رواه مسلم في صحيحه (1731) عن بريدة.
8-مجموع الفتاوى ج35 ص32
9-الأنفال 42

شارك أصدقاءك

0 التعليقات:

إرسال تعليق