مجلـــــــــــــة الإحياء الإسلامي ::: العدد الأول ::

تحميل المجلة بصيغة word

تحميل المجلة بصيغة pdf

تصفح المجلة

معاينة غلاف المجلة

الخميس، 15 مارس 2012

دراسات شرعية ::: الإرجاء والمرجئة ::: طارق عبد الحليم

مشاركة


::: الإرجاء والمرجئة :::
طارق عبد الحليم 


إن من الصفات اللصيقة ببني الإنسان : العجلة في الأمور ، وكيف لا ؛ وقد قال فاطر الناس جل وعلا
: [ وكَانَ الإنسَانُ عَجُولاً ]، ثم منَّ تعالى على المؤمنين بأن وجّه تلك الفطرة العجولة لديهم إلى معنى قُدّ من العجلة ، إلا أن جالب للبر والخير ، وهو (المسارعة) إلى الخيرات ، وقد قدمت بهذه المقدمة لأستميح القارئ عذراً لمسارعتي بالكتابة في موضوع هذه المقالة عن الإرجاء والمرجئة ، رغم أنه يدخل ضمن مجموعة الكتب التي اعتزمت - وأخ لي - أن نصدرها تباعاً - بعون الله تعالى - عن الفرق الإسلامية ، والتي صدر منها بالفعل مقدمتها عن أسباب التفرق والاختلاف ، وما فعلت ذلك إلا بعد أن قدرت مدى الحاجة إلى إظهار عوار تلك الفئة التي ما زالت جرثومتها خافية تارة ، وظاهرة تارات بين صفوف المسلمين - بل وعجباً ! بين صفوف الإسلاميين منهم - فتصيب ذلك الكيان الإسلامي بالضعف والوهن وفقدان القدرة على تمييز الخبيث من الطيب ، ومعرفة المفسد من المصلح ، وبالتالي أثرها البالغ السوء في الواقع الإسلامي أخلاقياً وسياسياً .
  ونحن لا نعتزم الخوض في هذه العجالة في تفاصيل مذهب (الإرجاء) ومناقشة أصحابه فيما ذهبوا إليه ، أو الإتيان على ذكر كافة فروع المرجئة التي انقسمت إليها ، إلا أننا سنذكر اختصاراً ما ذهبت إليه المرجئة بشكل عام في بدعتهم ، ثم نعرِّج بنقض تلك الأقوال وبيان وجه الحق فيها كما اختطَّه أهل السنة والجماعة ، ثم نلقي نظرة على الواقع الإسلامي لنرى مدى تأثره بتلك الجرثومة الإرجائية التي لازالت تنتقل في الجسد الإسلامي ، لتنخر فيه نخراً يفسد عليه قوته ، ويجعله عرضة للتفكك والانهيار .
 بعد أن يفسد المحكوم ويطغى الحاكم ويمهد لكليهما سبل الزيغ والانحراف .
  الإرجاء : مصدر أرجأ بمعنى أخر ، يقال : أرجأ الأمر أي أخره .
 وقد أطلق هذا الاسم على طائفة المرجئة لما قالوا بتأخير العمل عن الإيمان ، أي فصله عنه وتأخير مرتبته في الأهمية كذلك لعدم حكمهم على الفاسق أو الكافر بما هو أهلٌ له ، وادعاء إرجاء ذلك إلى يوم الحساب وتدور عقائد المرجئة حول الإيمان ، إذا ذهب أكثرهم إلى أنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان - عدا بعضهم ممن زعم أنه تصديق القلب ولم يشترط أنه النطق بالشهادتين مع القدرة عليهما - ولم يُدخلوا العمل في مسمى الإيمان ، فالإيمان عند هؤلاء متحقق كاملاً لمن صدق بالرسالة ونطق بالشهادتين ، وإن لم يأتي بعمل من أعمال الطاعات !  وقد دخلت عليهم تلك البدع من أصل تصورهم للإيمان ، وأنه واحد لا يتجزأ ولا يتبعض : أي لا يزيد ولا ينقص .
  وقد تمسكت المرجئة في أقوالهم تلك بما ادعوه من أن معنى الإيمان في اللغة : التصديق ، كما في قوله تعالى : [ ومَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ]، أي : مصدق لنا .
  كذلك بظواهر الأحاديث ، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - ، فيما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة قال : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله » ، وفيما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له : « فمن لقيتَ من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة » .
  وقالوا : إن تلك الأحاديث تدل على أن الإيمان هو : تصديق القلب والتلفظ بالشهادتين ، وهما كافيان لإثبات الإيمان ودخول الجنة دون العمل ! .
  وقد تجاوز بعض من ابتلاهم الله بشبه الإرجاء ؛ فلم يكتفوا بإخراج أعمال الطاعات من الواجبات والمستحبات من مسمى الإيمان بل كذلك الأعمال اللازمة لتحقيق التوحيد ، كالحكم بما أنزل الله من الشرائع - والذي هو من معاني الشهادتين والمتعلق بتوحيد ألوهية الله عز وجل - ولم لا ؟ ! والإيمان محله القلب والتصديق متحقق ؟ ! وما يضر من يترك التحاكم بغير إثم أو ذنب يقترفه مثله كمثل سارق البرتقالة ، أو من يؤذي جاره ؟ ! .
  فأتوا بذلك بما لم يأتِ به الأولون من أسلاف المرجئة ، ومهدوا لما سنلقي عليه نظرة عاجلة في واقع المجتمع الإسلامي .
  ونقض مذهب الإرجاء يكون بطريقتين : أحدهما : عام ، يتناول نقض مبادئهم في النظر إلى الشريعة - وهو ما اشتركت فيه معهم سائر أهل البدع والأهواء - ، والآخر : خاص ، يتناول الرد على أقوالهم قولاً قولاً ، وبيان فسادها بالأدلة الشرعية .
  وسنتناول كل طريق منهما بشكل موجز ، يتناسب مع ما قدرناه لهذا المقال من إيجاز .
 أولاً - الرد العام :  سلك أهل البدع والأهواء طرقاً معينة في دراستهم للنصوص الشرعية ، أدت بهم إلى النتائج التي وصلوا إليها ، نجملها فيما يلي :
  1- عدم الجمع بين أطراف الأدلة ، وذلك باتباعهم أول دليل يرونه دالاً - من جهة معينة - على ما أرادوه ، فإذا صادفوا دليلاً آخر لم يجمعوا بينه وبين الأول ، بل أولوه أو ضعفوه أو أخفوه ! بينما (مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المترتبة عليها ، وعامها المترتب على خاصها ، ومطلقها المحمول على مقيدها ، ومجملها المفسر بمبينها ، إلى ما سوى ذلك من مناحيها) .
  2- الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة أو الموضوعة ، مع ترك الأحاديث الصحيحة وإغفالها ، بينما مسلك أهل السنة هو في اتباع الحديث الصحيح وما يصح الاحتجاج به في الأحكام الشرعية ، سواء ما صح أو حسن حسب قواعدهم في ذلك .
  3- التعويل على جزيئات الشريعة دون ربطها بالقواعد الكلية التي تحكمها وتنتظمها .
  4 - تحريف الأدلة عن مواضعها ، وهو نوع من تحريف الكلم عن مواضعه الذي ذمه الله تعالى في كتابه ، وذلك بإيراد الدليل المقصود به مناط معين أو واقعة محددة لتطبيقه على مناط آخر - أو واقعة أخرى - وهي العملية التي تسمى عند الأصوليين : (تحقيق المناط) ، ولا شك أن (من أقر بالإسلام ويذم تحريف الكلام عن مواضعه لا يلجأ إليه صراحاً إلا مع اشتباه يعرض له وجهل يصده عن الحق ، مع هوى يعميه عن أخذ الدليل مأخذه فيكون بذلك السبب مبتدعاً) .
  فإطلاق الدليل وتوهم أنه يعم كافة الحالات الداخلة تحته دون تقييد فهو من جملة من حرف الكلم عن مواضعه وصار إلى الابتداع بدلاً من الاتباع .
 [الاعتصام 1/223] .
 ثانياً - النقض الخاص :  إن ما استدلت به المرجئة من أن الإيمان هو التصديق فليس بصحيح ، والحق أن الإيمان اسم شرعي استعمله الشارع ليدل به على معاني محددة في الشرع ، هي مجموعة الأقوال والأفعال التي يتركب منها ، فلا مدخل للمعنى اللغوي إذ (مما ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عُرِف تفسيرها وما أُريد بها من جهة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة وغيرهم) .
  ]الإيمان لابن تيمية : 245 [ هذا إلا أن الإيمان لا يعني لغة التصديق من وجوه عدّة (فإنه يقال للمخبر إذا صدقته : صدقه ، ولا يقال : آمنه وآمن به ، بل يقال : آمن له ، كما قال : [ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ]، وقال : [ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ ]« فإن تعدى باللام كقوله : آمن له ، كان تصديقاً وإن تعدى بالباء كان الإيمان الشرعي المتضمن للعمل .
  ]الإيمان : 248 [  كذلك فإن قسيم الإيمان ليس التكذيب بل الكفر ، فيقال لمن لم يصدق : قد كذب ، ومن لم يؤمن : قد كفر{ .
  ووجه آخر في لفظ التصديق والتكذيب : يطلق على ما هو غائب أو مشاهد ، أما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغيب ]الإيمان : 249 {
والإسلام والإيمان اسمان يدلان على معنى واحد إن انفردا ، وهو الاستسلام لله والعبودية له سبحانه ظاهراً وباطناً ، لكنهما إن اجتمعا دل كل منهما على معنى غير الآخر ، فدلّ الإسلام على الأعمال الظاهرة من الصلاة والصوم والحج ، ودلّ الإيمان على الأعمال الباطنة ، كالخشية والمحبة والخوف ، من أعمال القلوب .
  وقد دلت الآيات والأحاديث على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان - وعليه أجمع الصحابة والتابعون وسلف الأمة - فهو : قول وعمل ، يزيد وينقص ، يزيد بالطاعات ، وينقص بالمعاصي ، قال تعالى : [ لِيَزْدَادُوا إيمَاناً مَّعَ إيمَانِهِمْ ].
  وما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان » .
  كذلك ما رواه مسلم بسنده عن ابن عباس في حديث وفد عبد القيس ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وأن تؤدي خمساً من المغنم » .
  فالإيمان - إذن - قول وعمل ، قول القلب وهو : التصديق ، وعمل القلب : وهو : الإقرار والخضوع المستلزم للمحبة والانقياد ، وقول اللسان : وهو : النطق بالشهادتين ، وعمل اللسان والجوارح ، وهو العمل بالطاعات ، وترك المحظورات من الشريعة ، وهو يزيد وينقص .
  ثم ننظر إلى استدلال المرجئة - سلفاً وخلفاً - بأحاديث الشفاعة على أن قول الشهادتين تلفظاً يُثبت لصاحبة الإسلام والإيمان ، وإن أتى عملاً من أعمال الكفر ، كترك التحاكم إلى الشرع ، فنرى أنها هي طرق أهل البدع في عدم جمع أطراف الأدلة ، والنظر في الأحاديث .
  قالوا : روى مسلم بسنده عن عمر بن الخطاب في حديث جبريل : قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً » .
  وأغفلوا الرواية التالية لها مباشرة في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان » .
  كذلك حديث أركان الإسلام الذي رواه مسلم بسنده عن عبد الله بن عمر عن أبيه ، قال عبد الله : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « بُني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان » .
  وأغفلوا رواية مسلم الأخرى : في الباب نفسه عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : « بُني الإسلام على خمسة : على أن يُوحَّد الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصيام رمضان ، والحج » .
  وغير ذلك من الأحاديث التي ذكروا فيها رواية وأسقطوا روايات ، والتي تدل على أن التلفظ بالشهادتين المعتبر شرعاً هو توحيد الله وعبادته ، وترك الشرك ، وأن التلفظ بالشهادتين دلالة على قيام ذلك المعنى في النفس وفي البدن قولاً وعملاً ؛ ما لم يأت بعمل ظاهر َيكْفُر به ، فلا اعتبار حينئذ بتلفظ ، وهو المعنى الذي ذكره ابن القيم في إعلام الموقعين من أن الألفاظ تراد لمعانيها لا لذواتها وما فصله من اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ .
 [مسلم بشرح النووي 1/157]  وبعد .. فما هي الدوافع التي أدت إلى ظهور المرجئة في التاريخ ؟ وما هي عوامل بقائهم واستمرارهم ؟ لذلك الأمر تفصيل يضيق عنه نطاق هذا المقال ولكن لا بد من كلمتين توفيان بالغرض في هذا المقال .
  أما عن بداية الإرجاء فقد زعم بعض من تناول ذلك الأمر أنها ترجع إلى موقف بعض الصحابة إبان إطلال الفتن برأسها عند إرهاصات قيام الدولة الأموية ، وهم الذين لم يشاركوا في تلك الفتن إلا أننا نرى أن ذلك تزيد معيب على تلك الفترة يحمّلها أكثر مما تطيق ، ويجعلها نواة كل فساد ظهر في تاريخ المسلمين بعدها ، وما اعتزل بعض الصحابة الفتنة إرجاءً بل إن منهم من لاح له وجه الصواب فاتبعه ، ومنهم من غمض عليه جلية الأمر فآثر السلامة وحسب .. ! وهو موقف معتاد في مثل تلك الظروف أن يشارك البعض ويعتزل البعض الآخر ! ، ولعل بعض المفكرين يخرج علينا بأن هؤلاء - كذلك - هم نواة المعتزلة ؛ لاعتزالهم ذلك الأمر!.
 ]انظر إعلام الموقعين 3/105 [  وما نرتضيه في هذا المقام إيجازاً أن مذهب الإرجاء يتناسب مع من يتميع في موقفه ويؤثر السلامة على المخاطرة وإن كانت بالباطل ، فإن من تلفظ بالشهادتين مؤمن كإيمان جبريل ! والأعمال لا تدل على إيمان وفسق أو حتى كفر ، وليس لنا أن نزيف الباطل ونظهر عوار المفسد وندل على سوءاته ونسير فيه سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في معادلة الفاسق أو المذنب أو الكافر ، فمن ثم فهو مذهب يتناسب مع الحاكم الظالم - أو الحاكم الكافر حسب الحالة - فلن يثير أرباب هذا المذهب خلافاً مع الحاكم مهما أتى من أفعال ، فهو مؤمن على كل حال ، أليس يتلفظ بالشهادتين ؟ ! ثم ما لنا ندخل في سرائر الناس وندعي معرفة مكنونات صدورهم ، مادام العمل الظاهر لا مدخل له في قضية الإيمان ، وأن اعتقاد القلب هو المعوّل عليه في ذلك ، أليس يكفي ما ينطق به الحاكم لنكون معه في صف واحد ومسيرة واحدة نهادنه ونتعذر له المرة تلو المرة لنظل نعيش نتفيأ ضلال حكمه ، وإن ظهرت منا في بعض الأحيان - أو كلها - معاتبة أو معارضة فإنما هي معاتبة التصديق ، ونصح الأخ المؤمن لأخيه ، أو هي معارضة الخاضع ، وتبرم السائر تحت اللواء ! .
  ثم عامل آخر قد يكون له بعض الأثر في إطلال الإرجاء برأسه ، بل هو إلى عوامل استمراريته أقرب - وهو ظهور طوائف المنتسبين إلى مذهب الخوارج فكراً وعقيدة - وإن لم يكن بالضرورة اسماً - مما يزين لمن لم يتعمق النظر في دراسة العقائد وترجيح الصالح من الفاسد من الآراء - وغالبهم من الشباب على مر التاريخ دون رءوس الفتنة الذين يعون ما هم عليه من البدعة ، بل وبعضهم يقصد إليه قصداً - أن ينتسب إلى فكر الإرجاء قولاً وعملاً - دون تسمية ودون وعي منهم بذلك ولا إدراك لحقيقة مذهب السلف الصالح ، وهذا التصرف كرد فعل غير مدروس للأفكار التي تجنح للتطرف والغلو في فهم العقيدة في الجانب الآخر ، وكلا جناحي الإفراط والتفريط إن هي إلا ردود أفعال سلبية للحكم غير المشروع الذي يسود المجتمعات الإسلامية في أي عصر من عصورها .
  فالإرجاء إذن مذهب سياسي - أو قل : موقف سياسي - اتخذ طابع البحث في أوليات العقائد مع استشراء تلك الموجة في بداية عصر الأمويين وظهور علم الكلام - كما بينا عوامل ذلك في مقدمة أسباب الاختلاف - كان موقفاً سياسياً في الحكام الظالمين ، يوم أن كانوا لا يزالون يحكّمون شرع الله ، وإن تجاوزوا الحد وأفرطوا في الظلم ، ثم استمر على ذلك النهج منهجاً للضعاف ممن يريدون مهادنة الظالم وتبرير مواقف الضعف والخزي ، حتى وإن تجاوز الظلم إلى الكفر ، ومن هنا نرى أن المرجئة لم يكونوا هدفاً للسلطة الغاشمة الظالمة في عصر من العصور، بل كان منهم شعراء وعمال للحكام ، كثابت قطنة الذي كان والياً ليزيد بن المهلب على بعض الثغور ، بل إنه مذهب يصلح أن يدعيه الحاكم نفسه ليكون برداً وسلاماً على كافة الطوائف المبتدعة .
  فالمرجئة - إذن - في صلحٍ خفي ومهادنة غير مكتوبة مع الحاكم يتمتعون بالحرية في الحركة والقول جميعاً ، بينما يُضرب على يد من سواهم من أهل السنة والجماعة ، كما حدث لأئمة الفقه والحديث ، كمالك وأحمد بن حنبل وابن تيمية ، وكثيرين غيرهم ممن اتبعوا منهج السلف الصالح في الفهم عن الكتاب والسنة .
  وليست هذه هي الكلمة الأخيرة عن الإرجاء والمرجئة كما قدمت في أول المقال ، ولكنها نفثة غلت في الصدر وارتجّ بها القِدْرُ ، فلم يكن بُدِّ من إظهارها ! .
  وقد اتبعت فيها مذهباً أراه يعين الباحث في مثل تلك الأمور ، وهو التحليل النفسي لفهم الدوافع وراء تلك العقائد المنحرفة ، وهو مذهب ارتضيناه في أسباب الاختلاف وسنجعله بعون الله تعالى أحد مصادرنا في دراسة أمثال تلك الفرق التي تحمل معول الهدم والخراب لتهدم به صرح الإسلام من داخله ، عارفةً بذلك أو جاهلةً .
  [ واللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ].

شارك أصدقاءك

0 التعليقات:

إرسال تعليق